روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | الخشوع في المشاعر.. والشوق إليها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > الخشوع في المشاعر.. والشوق إليها


  الخشوع في المشاعر.. والشوق إليها
     عدد مرات المشاهدة: 4068        عدد مرات الإرسال: 0

بينت أكثر كتب الرحلات ما يجري على الحجاج في المشاعر من خشوع وما يعتريهم من انكسار وخضوع عند رؤية تلك المشاهد العظام.

وبينت أيضاً العاطفة التي كانت تتأجج في صدور الحجاج، وكيف كانوا على أتم استعداد لبيع أرواحهم وأموالهم في سبيل رؤية مرابع الطهر والقداسة.

ومغاني السعادة والسيادة، وتصور كيف كان الحاج ينسى كل تعبه عند رؤية مكة أو المدينة، وكيف كان يقبل على تلك المقدسات باكياً مستغفراً، متطهراً تائباً، مما كان له أعظم الأثر في بقاء سلطان الدين في النفوس.

وبقاء التصورات الإيمانية العقدية حية في الأذهان والقلوب، فلا جرم إذاً أن بقي الحجاز منارة مضيئة، ومتاباً ومثابة للناس خاصة في القرون التي عم فيها العالم الإسلامي التخلف والجهل والظلام – من القرن الحادي عشر إلى أوائل الرابع عشر – فكان أن سخر الله – تعالى – الحجاز تهوي إليه الأفئدة ويُجدد فيه الإيمان.
 
ويعلل إبن بطوطة هذا الشوق والخشوع المصاحبين للحاج بأنه عمل إلهي حتى يخف على الناس ما يجدونه من مشاق فلا ينقطعون عن الديار الحجازية، فيقول من عجائب صنع الله تعالى أنه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة.

والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبها متمكناً في القلوب، فلا يحلها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه، ولا يفارقها إلا أسفاً لفراقها، متولهاً لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناوياً لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب، حكمة من الله بالغة، وتصديقاً لدعوة خليله، عليه السلام.
 
والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاق ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عياناً دونها، ويشاهد التلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسروراً مستبشراً، كأنه لم يذق لها مرارة ولا كابد محنة ولا نصباً، إنه لأمر إلهي.

وصنع رباني، ودلالة لا يشوبها لبس، ولا تغشاها شبهة، ولا يطرقها تمويه، وتعز في بصيرة المستبصرين، وتبدو على فكرة المتفكرين.

ومن رزقه الله تعالى الحلول بتلك الأرجاء، والمثول بذلك الِفناء، فقد أنعم الله عليه النعمة الكبرى، وخوّله خير الدارين:  الدنيا والأخرى، فحق عليه أن يكثر الشكر على ما خوّله، ويديم الحمد على ما أولاه).
 
هذا القاسم بن يوسف التجيبي بذكر عظم شوق الحجاج إلى المشاعر في كتابه (مستفاد الرحلة والاغتراب) فيقول: 
 
فلما قربنا من التنعيم ولاحت لنا المساجد التي هنالك، وهي التي تنسبها الناس اليوم لعائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – صرخ الناس بالتلبية والدعاء، وارتفعت الأصوات بالتضرع والبكاء، وعاينا من الخشوع والخضوع ما كاد يذيب قلوبنا، ويذهب عقولنا والبابنا.

وكان معنا في القافلة شخص فاضل من أهل الخير والسمت الحسن – كانوا يدعونه بالفقيه حسن – فلما قربنا من التنعيم أخذه حال وخشوع، وعلته رقة وخضوع، وبكى وأبكى.

ثم غشي عليه، وكاد يذهب عقله، فسرى حاله للحاضرين، وزادهم في شوقهم وقلقهم لرؤية البيت الشريف – زاده الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة وتكريماً.
 
وبلغنا أن الشبلي – رضي الله عنه – لما وصل إلى مكة شرفها الله تعالى جعل يقول: 
 
أبطحاء مكة هذا الذي    أراه عياناً وهذا أنا
 
ثم غشي عليه يرحمه الله
 
ثم استمر السير، وزاد الخشوع، وعظم الشهيق والبكاء، وعلت الأصوات بالتلبية والدعاء.
 
وهذا ابن جُبير الأندلسي – رحمه الله تعالى – يقول في رحلته (تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار) واصفاً الخشوع العظيم الذي يخالط الحجاج في عرفه.
 
فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، وإلى الله عزَّ وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوباً خواشع، ولا أعناقاً لهيبة الله خوانغ خواضع من ذلك اليوم.
 
وهذا ابن جبير الأندلسيّ يصف حال الحجاج داخل الحرم فيقول في رحلته:  (تذكرة بالأخبار) شارحاً حال ساكني السراة إذا دخلوا الحرم: 
 
(القوم عرب ُصرحاء فُصَحاء جُفاة أصحاء، لم تُغًّذهم الرقة الحَضَرية، ولا هذبتهم السيرة المدنية، ولا سددت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية، فهم إذا طافوا بالكعبة المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الأم المشفقة، لائذين بجوارها، مُتعلقين بأستارها.

فحيثما علقت أيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها، وفي أثناء ذلك تصدع ألسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب، وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصوب.

فترى الناس حولهم باسطي أيديهم، مؤمّنين على أدعيتهم، متلقّنين لها من ألسنتهم، على أنهم طول مُقامهم لا يتمكن معهم طواف، ولا يوجد سبيل إلى استلام الحجر.
 
وهذا الشيخ محمد رشيد رضا يصف في رحلته الحاج إذا دخل مكة فيقول: 
 
(حتى إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جللها من المهابة و العظمة تذكر أنها أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين، وخصه بالآيات البينات الباقية على بقايا الأيام والسنين، ورأى أمامها مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا وآلهما الصلاة والسلام، ووجد نفسه حيث كان بدء دين الله الإسلام وحيث الختام.

فإذا دنا من مهبط الروح الأمين ومطاف الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء والصالحين فلا تسل ثَمّ عن الدموع كيف تنسكب، وعن الضلوع كيف تضطرب، وعن الأعناق كيف تخضع، وعن القلوب كيف تخشع، ولا عن وجدان الإيمان كيف يتألق نوره في الجنان، ويفيض بيانه على اللسان.

فيحركه بما يلهم من الثناء، وما يشعر بالحاجة إليه من الدعاء، وما يذكره أو ُيذكّر به من المأثور، لا تسل أيها القارئ عن شيء من ذلك، ولا عن غيره مما يكون عند أداء المناسك، فمن ذاق عرف، ومن حُرم انحرف.
 
لقد جرى ذكر الخشوع في المدينة المنورة على لسان كثير من الحجاج، وبينوا صعوبة وداع النبي صلى الله عليه وسلم والحال التي تعتريهم أثناء ذلك، فهذا ابن جبير الأندلسي يقول: 
 
"وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة، فيا له وداعاً عجباً ذهلت له النفوس ارتياعاً حتى طارت شعاعاً، واستشرت به النفوس التياعاً حتى ذابت انصداعاً! وما ظنك بموقف يُناجَي بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة، وتطيش به الألباب الثابتة المتئدة، فوا أسفاه وا أسفاه.
 
كل يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بُداً من فراقه، فما يستطيع إلى الصبر سبيلاً، ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلاً، وكل بلسان الحال ينشد: 
 
محبتي تقضي مُقامي  وحالتي تقتضي الرحيلا"
 
وهذا الورثيلاني الجزائري يقول في رحلته (نزهة الأنظار): 
 
"وعظم عليّ أمر التوديع حتى علا صوتي وارتفع، وكاد أمري إلى العويل، بل أنوح عليه نياح الثكلى العديمة لولدها.

وكيف لا وهو أن فراقه أعظم المصائب، ولم أنفصل عنه إلا بصبر عظيم وهول جسيم وحزن شديد، فلم أملك نفسي عند ذلك فعظمت المصيبة وعز الصبر، غير أني تسليت بانتقاله من دار الدنيا وفراق أصحابه.. . ".
 
وهذا الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله تعالى – يصف ما جرى له في المدينة في رحلته (إلى أرض النبوة) فيقول: 
 
"خفق قلبي خفقاناً شديداً، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة وقد دنونا منها حتى لقد كدنا نصير بين بيوتها.

وأحدّق بالقبة وتحتها أفضل من مشى على الأرض، وقد شخص بصري، وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحس من جيشان العواطف في نفسي، حتى غامت المشاهد في عيني.

وتداخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت عن حاضري، وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان.
 
ونظرت فإذا السيارات أمام باب السلام، فاشرأبت الأعناق، وبرقت الأبصار، ودمعت العيون، وخفقت القلوب، وتعالى الهتاف.

ونزلنا ندخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت حال لا سبيل إلى وصفها قط، اللهم اجعل لنا إلى تلك البقاع التي شرفتها بمحمد معاداً".

المصدر: موقع التاريخ